أخر الاخبار

إسلاميات

شعر

خواطر

التفكير الإيجابى

فكر و معرقة

ثقافة و فنون

تنمية شخصية إيجابية

الأربعاء، 1 يناير 2014

القدس تودع عاما حزينا وتنتظر آخر

0 التعليقات


أكدت منظمات وشخصيات فلسطينية أن مدينة القدس دفعت في العام 2013 ثمنا باهظا نتيجة سياسات الاحتلال التهويدية، والانتهاكات المستمرة بحق المسجد الأقصى.
وإضافة إلى الاقتحامات المستمرة للمسجد الأقصى وباحاته ومحيطه والبناء الاستيطاني المكثف في أنحاء القدس، سعى الاحتلال لسن تشريعات تزيد من وتيرة تهويد المدنية ومعالمها الإسلامية والمسيحية.
وبينما يؤكد خبراء أن عاما مرا جديدا ينتظر القدس والأقصى، تقول الهيئة الإسلامية-المسيحية لنصرة القدس والمقدسات إن العام 2013 شهد إجراءات ومشاريع إسرائيلية عديدة لإكمال تهويد المدينة المقدسة وطمس معالمها العربية وصبغها بطابع يهودي غريب عنها.
عام الأحزان
ووصف المحاضر بجامعة بيرزيت والباحث في شؤون القدس الدكتور جمال عمرو العام 2013 بأنه "عام الأحزان" على القدس، موضحا أنه لأول مرة يقف الاحتلال بكل مكوناته ويعلن جهارا الحرب على القدس.
وأضاف أن الاحتلال بمؤسساته الرسمية والأمنية والدبلوماسية والعسكرية والقضائية أعلن المعركة ضد القدس، موضحا أن لجنة رسمية ناقشت -ولأول مرة- خطة لتقسيم المسجد الأقصى، وأصدرت توصيات بإدخال المستوطنين إليه.
وذكر في حديثه للجزيرة نت أن الحفريات لم تَبق طيلة العام 2013 طي الكتمان كما في السابق، وإنما تعمد الاحتلال الإعلان عن كل نفق أو مشروع أسفل القدس أو فوقها.
من جهته بين الأمين العام للهيئة، حنا عيسى، في بيان تلقت الجزيرة نت نسخة منه، أن الانتهاكات والاقتحامات اليومية للأقصى من أبرز الخروقات التي مارسها الاحتلال خلال العام 2013، مذكرا برفع الأعلام الإسرائيلية والتقاط المستوطنين الصور وخلفهم قبة الصخرة، وتأدية الصلوات والطقوس التلمودية في باحات الأقصى.
وقال إن الاحتلال افتتح في العام الماضي متحفا يهوديا تحت الأقصى، وأقام سلسلة مهرجانات تهويدية بمدينة القدس. وحذر عيسى من مساعي بلدية الاحتلال لإنتاج مسلسلات وأفلام من قلب المدينة المقدسة برواية إسرائيلية تهويدية متطرفة.
وأشار إلى استمرار أعمال البناء والإسكان اليهودية في القدس رغم استئناف المفاوضات، فضلا عن سياسة هدم المنازل التي لم تتوقف.
بدوره قال مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية زياد الحموري، إن أهم ما شهده العام 2013 استثناء القدس من المفاوضات، إضافة إلى الإعلان عن آلاف الوحدات الاستيطانية يصعب حصرها.
وأضاف في حديثه للجزيرة نت أن العام 2013 تميز بكثرة الاعتداءات على المقدسات الإسلامية والمسيحية، محذرا من استيلاء شبه كامل للمسجد الأقصى ومحيطه في العام القادم 2014 خاصة في ظل الدعم الرسمي والعلني للجماعات اليهودية ومشاركة أعضاء بالكنيست ووزراء في عمليات الاقتحام للأقصى.
اقتحامات وهدم
في سياق متصل، تفيد معطيات حصلت عليها الجزيرة نت من مؤسسة عمارة الأقصى والمقدسات بأن مجموع اليهود الذين اقتحموا المسجد الأقصى منذ بداية العام الحالي وحتى أواخر نوفمبر الماضي بلغ 7830 يهوديا متطرفا ومستوطنا، فيما سجل سبتمبر الماضي أعلى معدل اقتحامات بواقع 1513 يهوديا.
ووفق نفس المعطيات فإن قرابة 3300 جندي وعسكري صهيوني اقتحموا المسجد الأقصى في الفترة المذكورة، إضافة إلى 243 ألف سائح.
وكان مراقب حقوق الإنسان والسكن بمركز أبحاث الأراضي، يعقوب عودة، قال في وقت سابق إن الاحتلال نفذ في العام الجاري مائة عملية هدم في القدس، وهدد بهدم 400 منشأة أخرى، أي ضعف ما كان عليه العدد العام الماضي.

تابع القراءة Résumé abuiyad

ديوان المظالم في العصور الإسلامية

0 التعليقات
مما لا شكَّ فيه أن أول من طَبَّق النظر في المظالم، هو النبي ، لكنه لم يكن بشكله الذي كان عليه في الخلافة الأموية بعد ذلك، وكان ذلك طبيعيًّا؛ إذ لم يكن في عهد الرسول ما يستدعي وجود ولاية المظالم إلا في حالات قليلة جدًّا، مثل ما وقع بين الرسول وبين ابن الأُتبيّة الأزدي، فقد استعمله رسول الله على صدقات (بني سليم)، فلما جاء حاسبه -وهو ما يرويه أبو حميد الساعدي- فقال: هذا مالكم وهذا هدية.
فقال رسول الله : "فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا". ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : "أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي. أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللهِ! لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ"[1].
في عصر الخلفاء الراشدين
وقد أعلن خليفة رسول الله أبو بكر عن عزمه للقيام بقضاء المظالم؛ لرفع الظلم، وإقامة العدل والحق، وكان ذلك في أول خطبة خطبها ، فقال: " أمَّا بعد؛ أيها الناس، فإنِّي قد وُلِّيت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني؛ وإن أسأت فقوِّموني؛ الصدق أمانةٌ، والكذب خيانةٌ، والضَّعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أريح[2] عليه حقَّه إن شاء الله، والقويُّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحقَّ منه..."[3].
وبدأ قضاء المظالم يأخذ في التدرج منذ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، فقد كان يجمع ولاته وأمراءه كل عام في موسم الحج، ويستمع إلى شكاوى الناس، ويقتصُّ من المسيء من هؤلاء الولاة والأمراء، بل أقر عمر مبدأ مهمًّا في محاسبة الولاة والعمال، هذا المبدأ هو ما نسميه اليوم "إساءة استعمال النفوذ"، وقد ظهر جليًّا مع والي مصر عمرو بن العاص وأحد أبنائه، الذي لطم مصريًّا سبقه في عدْوٍ كان بينهما.
وهذه القصة يرويها أنس بن مالك ؛ إذ قال: "إن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عُذْتَ مَعَاذًا[4]. قال: سابقتُ ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عَمرو يأمره بالقدوم ويُقْدِم بابنه معه، فَقَدِمَ، فقال عمر : أين المصري؟ خذ السطو فاضرب. فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر : اضرب ابن الأكرمين. قال أَنس : فضُرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحبُّ ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنَّيْنَا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصريِّ: ضع السوط على صلعة[5] عَمرو . فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر لعَمرو: مذ كم تَعَبَّدْتُم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني"[6].
قد يتملكنا النصب والتعب إذا أردنا أن نجد قصة شبيهة، أو موقفًا مماثلاً في تاريخ الأمم الأخرى، لقد استُقود من الابن أمام أبيه، ولم يكن مجرَّد ابن عادي؛ فهو ابن أمير مصر، ولا عجب في ذلك؛ إذ الناس سواسية أمام الإسلام وحضارته.
في عصر الخلافة الأموية
وفي عهد الخلافة الأموية كان عبد الملك بن مروان أشهر من جلس لهذه الولاية، ويجب أن نوضِّح أن ولاية المظالم، تتطلب علمًا بالأحكام الشرعية، وقدرة على الاجتهاد مع النصوص، وهذا يعني أن هذه الولاية تحتاج إلى فقيه عالم؛ ولذلك كان الخلفاء في الحضارة الإسلامية الذين يقومون بولاية المظالم على علم راسخ بمسائل الفقه والفروع، وكان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان من أوائل الخلفاء الأمويين الذين جلسوا لولاية المظالم، ولم يكن هؤلاء الخلفاء القائمون بولاية المظالم يُفْتُون بغير علم، أو يُنزلون العقوبة بغير استيعاب للقضايا، ثم الحكم فيها.
وتوسَّعت ولاية المظالم في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ فقد اغتصب عدي بن أرطاة (ت 102هـ) والي البصرة، أرضًا لرجل، فقرر الرجل أن يتجه إلى الخليفة رأسًا في دمشق، وهو ما يرويه ابن عبد الحكم بقوله: "خرج عُمَر -رحمه الله- ذات يوم من منزله... إذ جاء رجل على راحلة له فأناخها، فسأل عن عُمَر، فقيل له: قد خرج علينا وهو راجع الآن، فأقبل عُمَر، فقام إليه الرجل فشكا إليه عدي بن أرطاة، فقال عُمَر: أما والله ما غرَّنا منه إلا بعمامته السوداء! أما إني قد كتبتُ إليه، فضلَّ عن وصيتي: إنه من أتاك ببيِّنَة على حق هو له فَسَلِّمْه إليه، ثم قد عَنَّاك[7] إليَّ. فأمر عُمَر بِرَدِّ أرضه إليه، ثم قال له: كم أنفقت في مجيئك إليَّ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، تسألني عن نفقتي، وأنت قد رددت عليَّ أرضي، وهي خير من مئة ألف؟ فقال عُمَر: إنما رددت عليك حقك، فأخبرني كم أنفقت؟ قال: ما أدري. قال: احزره. قال: ستين درهمًا. فأمر له بها من بيت المال"[8].
إن المتأمل في هذا الموقف ليندهش من فعل أمير المؤمنين، إنه رئيس أكبر دولة لها كيانها الثقافي والعسكري والحضاري، ومع هذه العظمة، لا يتوانى أمير المؤمنين في القصاص من والي البصرة، واسترداد الحق لصاحبه، بل أعظم من ذلك يُحَمِّل بيت المال (خزينة الدولة) نفقات انتقال المدعي مهما كانت ضئيلة أو كبيرة، وهذا من أعظم مظاهر رقي الحضارة الإسلامية، وتكافلها مع أفرادها.
في العصر العباسي
وأما في العصر العباسي، فقد تَطَوَّر النظر في المظالم حتى أخذ شكلاً ناضجًا جدًّا في منتصف القرن الخامس الهجري، فأصبح للمظالم ديوان مستقلٌّ، أي ما يُعادل وزارة مختصَّة في زماننا الآن، وقد ترك لنا الماوردي صورة رائعة عن الأصناف التي تقوم بهذا الديوان، وهم:
الحماة والأعوان؛ لجذب القوي، وتقويم الجريء، فالحماة هم كبار القواد، والأعوان هم الشرطة القضائية.
القضاة والحكام؛ لاستعلام ما يثبت عندهم من الحقوق، وبهذا استدركوا النقص الذي يمكن أن يكون في والي المظالم من حيث معرفته بالقضاء وبالأصول القضائية.
الفقهاء؛ ليُرجع إليهم فيما أُشْكل، ويسألهم عما اشتبه، وبهذا أكملوا نقص العلم المحتمل.
الكُتَّاب؛ ليُثبتوا ما جرى بين الخصوم، وما توجَّب لهم أو عليهم من حقوق.
الشهود؛ ليُشهدهم على ما أوجبه من حق، وأمضاه من حكم، وهؤلاء يُشبهون "النيابة العامة"[9].
وقد جلس خلفاء وأمراء العباسيين لولاية المظالم، ومن أعجب الأمثلة التي ذُكِرَتْ عن هذه الولاية، أن رجلاً دخل على أبي جعفر المنصور -وكان والي المظالم على أرمينية في خلافة أخيه أبي العباس السفاح- فقال: "إن لي مظلمة، وإني أسألك أن تسمع مني مثلاً أضربه قبل أن أذكر مظلمتي. قال: قل. قال: إني وجلتُ[10] لله تبارك وتعالى، خلَقَ الخلقَ على طبقاتٍ، فالصبيُّ إذا خرج إلى الدنيا لا يعرف إلا أمه، ولا يطلبُ غيرها، فإذا فزع من شيء لجأ إليها، ثم يرتفعُ عن ذلك طبقة، فيعرف أن أباه أَعَزّ من أمه، فإن أفزعه شيءٌ لجأ إلى أبيه، ثم يبلغ ويستحكم، فإن أفزعه شيء لجأ إلى سلطانه، فإن ظلمه ظالم انتصر به، فإذا ظلمه السلطان لجأ إلى ربه واستنصره، وقد كنتُ في هذه الطبقات، وقد ظلمني ابن نهيك[11] في ضيعة لي في ولايته، فإن نصرتني عليه، وأخذتَ بمظلمتي وإلا استنصرتُ إلى الله ولجأتُ إليه، فانظر لنفسك أيها الأمير أو دعْ. فتضاءل أبو جعفر، وقال: أعد عليَّ الكلام. فأعاده فقال: أما أول شيء فقد عزلتُ ابن نهيك عن ناحيته. وأمر بردِّ ضيعته"[12].
وقد كان من حق الرعية أن تتظلم من الخليفة نفسه، وهذا من أعظم المحاكمات التي رأيناها في تاريخ الحضارة الإسلامية؛ فقد حكى رجل اسمه مسور بن مساور، قوله: "ظلمني وكيل للمهدي وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلاَّمًا صاحب المظالم، فتظلَّمتُ منه، وأعطيتُه رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي، وعنده عمه العباس بن محمد، وعافية القاضي، قال: فقال له المهدي: ادْنُهُ. فدنوتُ، فقال: ما تقول؟ قلتُ: ظلمتَني. قال: فترضى بأحد هذين (يقصد القاضي عافية، أو عمه الْعَبَّاس). قال: قلتُ: نعم. قال: فادنُ مني. فدنوتُ منه حتى التزقتُ بالفراش، قال: تكلم. قلتُ: أصلح الله القاضي، إنه ظلمني في ضيعتي هذا. فقال القاضي: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: ضيعتي وفي يدي. قال: قلتُ: أصلح الله القاضي! سلْهُ: صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ قال: فسأله: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: صارت إليَّ بعد الخلافة. قال: فأطلِقها له. قال: قد فعلتُ. فقال العباس بن محمد: والله! يا أمير المؤمنين، لهذا المجلسُ أحبُّ إليَّ من عشرين ألف ألف درهم!"[13].
لقد كانت الحضارة الإسلامية تُعنى بجميع الأفراد، ولم تُفرِّق المؤسسة القضائية الإسلامية بين الرعايا على أساس الدين أو الجنس أو المكانة الاجتماعية، كما كان عند الرومان والفرس، أو حتى عند العرب أنفسهم قبل الإسلام، وكون خليفة المسلمين يخضع لقرار المؤسسة القضائية، ويُنفِّذ هذا القرار لرجل من عامة المسلمين- قد لا يكون صاحب منصب أو قبيلة تسانده، أو مال يتزلَّف به - لَيُؤَكِّد على رقي الحضارة الإسلامية، ويُعمِّق عندنا أن هذه الحضارة كانت تحترم مواطنيها، وتقف بجوار الضعيف والمظلوم منهم.
بل رأينا من الخلفاء، من يُقَدِّم النظر في المظالم على عيادة أمه المريضة وزيارتها؛ فقد حُكي أن الخليفة الهادي (ت 170هـ) "ركب يومًا يريد عيادة أمه الخيزران من علَّة كانت وجدتها، فاعترضه عمر بن بزيع[14]، فقال له: يا أمير المؤمنين، ألا أدلك على وجه هو أعود عليك من هذا؟ فقال: ما هو يا عمرُ؟ قال: المظالم، لم تنظر فيها منذ ثلاث. قال: فأومأ إلى المُطْرِقَة[15] أن يميلوا إلى دار المظالم، ثم بعث إلى الخيزران بخادم من خدمه يعتذر إليها من تخلفه، وقال: قل لها: إن عمر بن بزيع أخبرنا من حق الله بما هو أوجب علينا من حقِّك، فملنا إليه، ونحن عائدون إليك في غد إن شاء الله"[16].
وقد كان الخليفة العباسي المأمون يُخَصِّصُ يوم الأحد من كل أسبوع للنظر في المظالم، وفي يوم من أيام جلوسه جاءته امرأة في ثياب رثّة "فقالت:
يَا خَيْرَ مُنْتَصِفٍ يُهْـدَى لَهُ الرَّشَـدُ *** وَيَا إمَامًا بِهِ قَدْ أَشْرَقَ الْبَلَـدُ
تَشْكُو إلَيْكَ عَمِيـدَ الْـمُلْكِ أَرَمَلَةٌ *** عَدَا عَلَيْهَا فَمَا تَقْوَى بِهِ أَسَدُ
فَابْتَزَّ مِنْهَـا ضِيَاعًا بَعْـدَ مَنْعَتِهَـا *** لَـمَّا تَفَرَّقَ عَنْهَا الأَهْلُ وَالْوَلَدُ
فأطرق المأمون يسيرًا ثمَّ رفع رأسه وقال:
مِنْ دُونِ مَـا قُلْتِ عِيلَ الصَّبْرُ وَالْـجَلَدُ *** وَأَقْرَحَ الْقَلْبَ هَذَا الْـحُزْنُ وَالْكَمَـدُ
هَـذَا أَوَانُ صَـلاَةِ الظُّهْرِ فَانْصَرِفِـي *** وَأَحْضِرِي الْـخَصْمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَعِدُ
الْـمَجْلِسُ السَّبْتُ إنْ يُقْضَ الْجُلُوسُ لَنَا *** أُنْصِفْكِ مِنْهُ وَإِلاَّ الْـمَجْلِسُ الأَحَـدُ
فانصرفت وحضرت يوم الأحد في أوَّل النَّاس، فقال لها المأمون: من خصمك؟ فقالت: القائم على رأسك العبَّاس بن أمير المؤمنين (ابنه)، فقال المأمون لقاضيه يحيى بن أكثم: أجلسها معه وانظر بينهما. فأجلسها معه، ونظر بينهما بحضرة المأمون، وجعل كلامها يعلو، فزجرها بعض حجَّابه، فقال له المأمون: دعها فإنَّ الحقَّ أنطقها والباطل أخرسه. وأمر بردِّ ضياعها عليها. ففعل المأمون في النَّظر بينهما حيث كان بمشهده، ولم يباشره بنفسه لما اقتضته السِّياسة؛ من وجهين: أحدهما: أنَّ حكمه ربَّما توجَّه لولده، وربَّما كان عليه، وهو لا يجوز أن يحكم لولده، وإن جاز أن يحكم عليه. والثَّاني: أنَّ الخصم امرأةٌ يجلُّ المأمون عن محاورتها... وباشر المأمون تنفيذ الحكم وإلزام الحقِّ"[17].
وتأديبًا من الخلفاء للعمال الظالمين "كان المنْصُور إذا عزل عاملاً أخذ ماله وتركه في بيت مالٍ مفرد سمَّاه بيت مال المظالم، وكتب عليه اسم صاحبه"[18]، لكن هذه المصادرات كانت إلى حين؛ إذ كانت غايتها تأديب هؤلاء الولاة وترهيبهم؛ ولذلك قال المنْصُور لابنه المهدي:" قد هيَّأت لك شيئًا، فإذا أنا متُّ فادع من أخذتُ ماله فاردده عليه، فإنك تُسْتَحْمد بذلك إليهم وإلى العامة. ففعل المهدي ذلك"[19].
في العصر الأندلسي
وكان قضاء المظالم قد عُرف في الأندلس باسم "خُطَّة المظالم" التي ظهرت في وقت مبكِّر منذ الدولة الأموية في الأندلس، لكن لم تتَّضح واجباتها إلا في عصر الخلافة في القرن الرابع الهجري.
وقد مرَّت خُطَّة المظالم في المغرب والأندلس بتطور يختلف عن مثيلتها في الشرق الأموي والعباسي؛ إذ كانت أقل منزلة من رتبة "قاضي الجماعة"، أو ما يُسمى في المشرق بـ"قاضي القضاة"، ولم يَلِ هذه الوظيفة من الأمراء والخلفاء في الأندلس والمغرب إلا القليل منهم؛ ولذلك كان المتَوَلُّون لهذه المهمة من الفقهاء والعلماء الراسخين، ومن أشهر من تولَّى المظالم في إفريقية محمد بن عبد الله (ت 398هـ) الذي قال في حقه ابن عذارى: "كانت وطأته اشتدت على أهل الريب والفساد، بالضرب والقتل وقطع الأيدي والأرجل، لا تأخذه فيها لومة لائم"[20].
وبلغت شهرة ومكانة بعض مَنْ وَلِيَ خطة المظالم في الأندلس درجة عالية بين الخاصة والعامة، وترقى بعضهم في المناصب الإدارية العليا في الدولة، فهذا "أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس قد تقلَّد خطة المظالم بعهد المنصور محمد بن أبي عامر؛ فكانت أحكامه شدادًا، وعزائمه نافذة؛ وله على الظالمين سَوْرة[21] مرهوبة، وشارك الوزراء في الرأي؛ إلى أن ارتقى إلى ولاية القضاء بقرطبة، مُجْمِعًا إلى خُطة الوزارة والصلاة؛ وقلَّ ما اجتمع ذلك لقاضٍ قبله بالأندلس"[22].
في عصر الولاة
واهتمَّ كثير من ولاة المسلمين بالنظر في المظالم كما كان الحال مع الخلفاء؛ فقد كان كافور الإخشيدي يجلس للمظالم يوم السبت من كل أسبوع، واستمرَّ على هذه العادة إلى أن توفي[23]، وكذلك كان دأب أمراء السلاجقة، فقد خَصَّص الأمير طغرلبك يومين من كل أسبوع للنظر في المظالم، وكانت هذه عادة ملوكهم[24]، وكان الملك الْعَزِيز في الدولة الأيوبية يجلس للمظالم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع[25].

ومثل ذلك ما كان في الدولة السعدية في المغرب (961 - 1069هـ)؛ إذ خَصَّص سلطانها أحمد المنصور (ت 1011هـ) مجلسًا للنظر في المظالم سمَّاه "الديوان"، وكان الديوان يُعقد يوم الأربعاء من كل أسبوع للمشورة فيما ينوب من جلائل الأمور، وعظيم النوازل، وفي هذا الديوان يُظهر شكايته مَنْ لم يجد سبيلاً للوصول إلى السلطان[26].
في عصر المماليك
وقد اهتمَّ المماليك بولاية المظالم، وعَيَّنُوا لها خيار القضاة والفقهاء، ولم يمنع ذلك من نظرهم في بعض المظالم، فقد ذكر المقريزي في حوادث عام (661هـ) أن رجلين من أهل الإسكندرية قدما على سلطان مصر ركن الدين بيبرس البندقداري (ت 676هـ) "أحدهما يقال له ابن البوري، والآخر يُعرف بالمكرم بن الزيات، ومعهما أوراق تتضمن استخراج أموال ضائعة، فاستدعى السلطان في يوم الثلاثاء سادسه الأتابك والصاحب والقضاة والفقهاء، وأُمِرَتْ فقُرِئت، وصار كلما ذُكِر له باب مظلمة سدَّه، ويعودُ على المذكورين بالإنكار، حتى انتهت القراءة. فقال: اعلموا أني تركتُ لله تعالى ستمائة ألف دينار من التصقيع والتقويم والراجل والعبد والجارية وتقويم النخل، فعوَّضني الله من الحلال أكثر من ذلك، وطلبت جرائد الحساب فزادت بعد حطِّ المظالم جملة، ومن ترك شيئًا لله عَوَّضه الله خيرًا وأمر بإشهار ابن البوري"[27].
ففي هذا الموقف، نجد أن السلطان يُحاسب معظم أجهزة الدولة؛ هم: وزير الحربية، ورئيس الوزراء، والمؤسسة القضائية، وكذا الفقهاء على تقصيرهم في ضياع أموال الرعية، ويُذَكِّرهم بأنه ترك لله تعالى آلاف الدنانير التي ارتأى أنها لم تكن من حقِّه، حثًّا لهم على الحفاظ على الأموال، بل يعزل السلطان أحد الرجلين اللذين أتيا إليه بهذه الأوراق، ويأمر بإشهاره وفضحه في القاهرة؛ لأنه لم يُعلم السلطان بهذه الواقعة في وقتها.
وكان كثير من سلاطين المماليك يذهبون إلى الميادين العامة لقضاء مظالم الرعية؛ فكان منهم سيف الدين برقوق (ت 801هـ)، ففي حوادث عام (792هـ) يذكر المقريزي "أن برقوق قد جلس بالميدان تحت القلعة للنظر في المظالم والحُكْم بَيْنَ الناس على عادته، فهرع الناس إليه، وأكثروا من الشكايات، فكثر خوف الأكابر وفزعهم، وترقَّب كل منهم أن يُشْتَكى إليه"[28].
إن نظر الخلفاء والأمراء في المظالم على مدار تاريخ الحضارة الإسلامية، ليُؤَكِّد على أن كل الناس تحت طائلة القانون والمحاكمة إذا أخطئوا، لا ميزة في ذلك لطائفة الحكام والأمراء على من سواهم؛ فمعاقبة الأمراء وقادة الجند والولاة والوزراء وكبار رجال الدولة بمن فيهم الخليفة نفسه، لتؤكد لنا على نزاهة ورفعة الحضارة الإسلامية، ولم تكن الحضارات كالفارسية والرومانية، أو حتى في العصور الحديثة كمحكمة العدل الدولية، لتُضارع أو تشابه عمل ولاية المظالم في حضارتنا الإسلامية الخالدة، التي كانت تأخذ على يد الظالم دون محاباة، أو تكيل بمكيالين، كما في عصرنا هذا!
وبعدُ، فإننا لن نستطيع أن نجمع كل ما تميزت به المؤسسة القضائية في الحضارة الإسلامية في فقرات قليلة، أو وريقات متعددة، فلا ريب أن هذا غمطٌ للحق، وبُعْدٌ عن جادَّة الصواب، ولكن تلك المواقف الرائعة التي أتينا بها ما هي إلا دليل على فيض هذه المؤسسة العريقة من المواقف والنظريات، التي سنَّت للمؤسسات الدستورية والقانونية في العالم المعاصر الأسس العامة، والمنهجية السليمة للتعامل في هذا السبيل المهم.


تابع القراءة Résumé abuiyad

النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية

0 التعليقات

جاء الإسلام بدعوة خاتمة لكل الرسالات والدعوات, ونزل القرآن مُصدقًا لما بين يديه من الكتب السابقة ومُهيمنًا عليها, وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم كخاتم المرسلين بالرسالة العالمية الجديدة للبشر كافة والعالمين أجمعين، لذلك فقد اقتضت عالمية الرسالة الخاتمة أن تكون جامعة مانعة جامعة، لها خير يحتاج إليه الإنسان في دنياه وأخراه, ومانعة لها ما يؤذيه ويكدر صفو حياته ويعطل سيره لأخراه, فجاء الإسلام بدعوة دين ودولة ودعوة حياة اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وفكرية، ووضع أسس العقيدة النقية، ونظم العلاقات على كل المستويات، لتنتج لنا في النهاية مجتمعًا مسلمًا متميزًا، في كل شيء، عقديًّا، وسلوكيًّا، وأخلاقيًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا، وفكريًّا، وحضاريًّا.
ومن أبرز ما تميزت به الحضارة الإسلامية والتي تمثل تفاعل جميع القيم والتعاليم الإسلامية مع المجتمع البشري؛ هي تلك النظم التي قامت عليها تلك الحضارة الإسلامية، والتي شملت أمور الحكم والإدارة، والسلام، والحب، والاجتماع، والاقتصاد، وكل ما يتصل بتنظيم أمور الدولة المسلمة، التي هي المحتوى العلمي لقيم الحضارة الإسلامية, وحديثنا في هذا المقام عن النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية.
بيت المال "وزارة المالية":
تعتبر الحضارة الإسلامية الرائدة في مجال تنظيم الأموال الاقتصادية والموارد المالية للأمة الإسلامية، وعرفت البشرية أول وزارة للمالية على نفس النمط الذي يسود الآن في أرقى الدول المتحضرة، وهذه الوزارة الرائدة كانت "بيت المال", ويعتبر إنشاء "بيت المال" من الإنجازات الحضارية للخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي كان أوّل من أنشأ بيت المال بسبب الفتوحات العظيمة التي تمت في عهده، والخيرات التي تدفقت على الدولة المسلمة, فقد روى ابن سعد في طبقاته أن أبا هريرة قَدِم على عمر من البحرين فلَقِيَه في صلاة العشاء الآخرة، فسلّم عليه ثم سأله عن الناس، ثم قال لأبي هريرة: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، فقال عمر: إنّك ناعس فارجع إلى أهلك فنم, فإذا أصبحت فأتني، قال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال عمر: أطيّبٌ؟ قلت: نعم لا أعلم إلا ذلك، فقال عمر للناس: إنّه قد قدم علينا مال كثير, فإن شئتم أن نعده لكم عدًّا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً، ونشأت من يومها فكرة بيت المال.

ولقد أنشأ عمر بيت المال الفرعي في كل ولاية يكون خاصًّا بموارد ومصارف تلك الولاية وما يزيد يُردّ على بيت المال العام أو المركز الرئيس بالمدينة, وجعل له أمينًا مستقلاً في عمله عن الوالي وعن القاضي، وهو ما عرفه العالم بعد ذلك باسم "مبدأ فصل السلطات".
وتعالوا سويًّا نقترب من بيت مال المسلمين لنتعرف على موارد ومصارف هذا البيت، والذي يمثّل للنظام الاقتصادي للدولة الإسلامية، وما يوضح عظمة الحضارة الإسلامية وريادتها في هذا المجال وغيره.
موارد بيت المال:
تنقسم موارد بيت المال في الدولة المسلمة إلى عدة موارد ومصادر تحت القاعدة الأصولية العامة (إن الأصل في الأموال الحرمة وما أبيح أخذه يكون بنص).

وهي القاعدة المستفادة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام...» وهذه الموارد كما يلي:
أولاً: الزكاة: وهي ركن من أركان الإسلام وفريضة محكمة وثابتة إلى قيام الساعة، وهي مقدار معلوم من مال الأغنياء يُردُّ إلى إخوانهم الفقراء وهي أرقى صور التكافل والتراحم الاجتماعي، والذي لا يُعرف نظيره في أي مجتمع من المجتمعات السابقة أو اللاحقة، والمال الواجب فيه الزكاة، أربعة أقسام:
(1) زكاة النقد.
(2) زكاة السوائم والأنعام والماشية.
(3) زكاة الزروع والثمار.
(4) زكاة الركاز والمعادن.

وهذا المورد من موارد بيت مال الدولة المسلمة يتميّز عن باقي الموارد بتحديد مصارفه وأوجه إنفاقه وهي المذكورة في الآية رقم 60 من سورة التوبة.
ثانيًا: الخراج: لمّا فتح المسلمون بلاد العراق وأزالوا دولة الفرس المجوس منها، وأيضا فتحوا الشام والجزيرة وطردوا الروم، منها طلب كثير من كبار الصحابة من الخليفة عمر بن الخطاب أن يًقسِم الأرض المفتوحة على الفاتحين والمجاهدين، كما قسم عليها الغنائم المنقولة من سلاح ومتاع، ولكن عمر رأى أن تكون الأرض المفتوحة فيئًا لعموم المسلمين على مر العصور, واستند في رأيه على آيات الفيء الموجودة في سورة الحشر, وآية الفيء هذه لعموم المسلمين حتى في العصور القادمة، وألحَّ عليه الصحابة في تقسيم الأرض ولكنه أبى، وأيده في رأيه عبد الرحمن بن عوف، وشرح الله عز وجل صدر الفاروق لهذا الرأي الذي كان فيه الفلاح والصلاح للأمة المسلمة، وجعل عمر على هذه الأرض مقدارًا معينًا من المال تدفعه كل عام وهو ما عرف بالخراج، والأرض الخراجية تنقسم إلى نوعين هما:
1- الأراضي التي فُتحت عنوة وبَقِيَ عليها أهلها دون أن يدخلوا في الإسلام، يفلحونها لحاجة الدولة لخبراتهم على أن يدفعوا خراجها وينتفعوا بالباقي مقابل عملهم في الأرض.
2- الأراضي التي فتحت صُلحًا واتفق المسلمون مع أهلها على أداء خراجها مقابل أن تبقى في أيديهم يتوارثونها طالما يدفعون خراجها ولا يستطيع أحد أن يأخذها.
وكان الخراج أحيانًا في صورة مال أو حاصلات زراعية وكان يجبى بعد الحصاد, وحولُه شمسي لا قمري لارتباط الزراعة بالنظام الشمسي والفصول الأربعة.
مع ملاحظة حقيقة هامة تضمن استمرارية الخراج كمصدر هام من مصادر الأموال في الدولة المسلمة، وهي أن الخراج لا يسقط عن الأرض أبدًا حتى ولو أسلم أصحابها، ويعتبر كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف -صاحب أبي حنيفة- من أفضل وأول ما كتب في مصادر بيت مال الدولة ومصارفه، كتبه بناءً على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي أراد ضبط الأمور المالية في خلافته.
كيف تعامل عمر مع أرض الخراج؟
لما اتضح لعمر رأيه في الأرض المغنومة أرسل من قِبَلِه رجالاً لمسح أرض السواد "بالصراق" فبلغت مساحتها 26 مليون جريب، والجريب مساحته تقدر بألف ومائتان متر، أي أن كل 3.5 جريب يوازي فدان زراعي الآن، وجعل عمر على كل جريب مقدارًا معينًا من الدراهم يختلف من جريب لآخر حسب طبيعة الزراعة أو الثمار والزروع, فالكرم والنخل تختلف عن القمح, والشعير عن القطن عن القصب وهكذا, وبلغت قيمة خراج أرض السواد قبل وفاة عمر بعام واحد مائة مليون درهم.

وقد بقي لنا من عهد المأمون العباسي أثر تاريخيّ هام يدل على مقدار الجباية الخراجية من جميع الأقاليم, فيكون بهذا الأثر دخل الدولة الإسلامية من الخراج فقط كمورد من موارد الدولة يبلغ 31960000 درهم، و3817000 دينار، هذا غير العروض الأخرى المذكورة والتي لو قومت لبلغت مبلغًا كبيرًا، كل ذلك يرد إلى بيت مال المسلمين ببغداد.
ثالثًا: العشور: ليست كل أراضي الدولة الإسلامية المفتوحة تعتبر أرضًا خراجية، بل هناك نوع آخر من الأراضي لا يفرض عليها الخراج، وهي التي يفرض عليها عشر غلتها واسمها الأرض العشرية، وهي ثلاثة أنواع:
أ - الأرض التي أسلم أهلها وهم عليها من غير قتال ولا حرب.
ب - الأرض التي لم يعرف لها صاحب ووزعت على الفاتحين بإذن الإمام.
ج - الأرض البور أو الموات التي فتحها المسلمون وقاموا باستصلاحها.

ويلاحظ أنه لا يجوز تحويل الأرض العشرية إلى أرض خراج كما لا يجوز تحويل أرض الخراج إلى أرض عشرية.
رابعًا: الجزية: تأمر شريعة الإسلام السمحة النقية أنه إذا أراد المسلمون غزو بلد وجب عليهم أولاً دعوة أهله إلى الدخول في الإسلام، فإذا لم يسلموا يبقون على دينهم ويدفعون الجزية مقابل دفاع المسلمين عنهم ورد العدوان عن بلادهم وتمتعهم بجميع حرياتهم, وهي تقابل الزكاة المفروضة على المسلمين، وتتبين لنا عظمة هذا الدين القويم في أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال دون النساء والصبيان، ولا تؤخذ من مسكين ولا من أعمى ولا من مقعد لا مال له، ولا من راهب ولا من شيخ كبير لا يستطيع العمل، ولا من المرضى الزمنى, وليس في أموال أهل ذمة المسلمين زكاة، وتتضح أيضًا عظمة هذا الدين في أن مقدارها يختلف من حالة لأخرى حسب يسر الدافع, وقد ذكر أبو يوسف في كتابه الخراج ثلاثة فئات: 58 درهمًا على الموسرين، و24 على المتورطين، و12 على العمال، والجزية لا تسقط عن الذمّي إلا في حالة واحدة وهي إسلامه "بخلاف الخراج".
وليست الجزية من مستحدثات الإسلام فلقد عرفتها الأمم السابقة, فلقد فرض اليونان القدامى على سكان سواحل آسيا الصغرى في القرن الخامس قبل الميلاد ضريبة أشبه بالجزية مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين، كما فرضها الروم على الشعوب التي أخضعوها لحكمهم وتبعهم الفرس، وكانت الجزية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق على أهل الكتابين اليهود والنصارى, فلما كان عهد عمر بن الخطاب ألحق بهما المجوس عملاً بشدة عبد الرحمن بن عوف, فلما كان عهد المأمون العباسي ألحق بهم "الصابئة".
خامسًا: الغنائم: وهي بحل ما غنمه المسلمون في حربهم ضد الكفار والمشركين من غير الملة, وقد أباحها الله عز وجل لهذه الأمة لما رأى ضعفها وقصر أعمارها وكثرة أعدائها، وهي من خصوصيات هذه الأمة الخاتمة، ولم تكن لأمة ولا نبي من قبل, وهذه الغنائم عبارة عن المتاع والسلاح والخيل والأموال المنقولة من ذهب وفضة وغير ذلك، ولا يُستثنى إلا الأرض عملاً بمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جعلها وقفًا لعموم المسلمين.
والغنائم لا يدخل منها في بيت المال إلا الخُمس أما باقي الأخماس الأربعة فتوزع على المجاهدين سواء كانوا من الجند النظاميين أو من المتطوعين، أما مصرف الخمس فهو مذكور في قوله عز وجل في الآية رقم (41) من سورة الأنفال كما يلي:
(1) سهم للرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه وأزواجه وفي صالح المسلمين, وقد أسقط أبو بكر هذا السهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) سهم ذي القربى، وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني عبد المطلب، وقد أسقط أبو بكر أيضًا هذا السهم.
(3) سهم لليتامى.
(4) سهم للمساكين.
(5) سهم لأبناء السبيل.

وعندما جاء عمر اتفق مع الصحابة على جعل سهم الرسول وسهم قرابته في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين وهذا ما عليه الراجح من أقوال أهل العلم.
سادسًا: عشور التجارة: ولم تكن عشور التجارة من الموارد التي ذكرها القرآن الكريم، ولكنها أُحدثت في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أيضًا، وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إليه أن تجارًا من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر -ويعني أرض الحرب كل أرض أهلها غير مسلمين- فكتب إليهم عمر: وخذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين.
ورُوي أن أهل مدينة "مبنج" وكانوا نصارى في شمال الجزيرة، كتبوا إلى عمر بن الخطاب يقولون: "دعنا ندخل أرضك تجارًا وتعشرنا", فشاور عمر الصحابة في ذلك فوافقوا فأصبحت سنّة ماضية, وإذا كان القادم بالتجارة من المسلمين فيُسأل هل أدى زكاة هذه التجارة أم لا؟ ويقبل يمينه على ذلك, وهكذا نرى أن العشور تختلف تمامًا عن صورة الجمارك المفروضة اليوم على كل ما يأتي من الخارج سواء كان التاجر مسلمًا أو غير مسلم، وكان هذا كله هي موارد بيت مال المسلمين أو ما يطلق عليه في الصورة الحديثة بند "الإيرادات".
مصارف بيت المال: وهي كالآتي:
أولاً: أرزاق الولاة والقضاة وموظفو الدولة والعمال في المصلحة العامة ومن هؤلاء أمير المؤمنين أو الخليفة نفسه.

ثانيًا: رواتب الجند والعسكر, ولم يكن هناك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مرتبات معينة للجند لأن الجميع كانوا جنودًا، ولم يكن هناك جيش نظامي بالمعنى المعروف، وكان الجميع يأخذ من أربعة أخماس الغنائم والخراج، ولما وَلِيَ أبو بكر ساوى بين الناس في الأعطيات، فلما جاء عمر بن الخطاب قسَّم العطاء مفضلاً الأسبق فالأسبق وعلى هذه القاعدة كانت المرتبات كالآتي:
- 12000 درهم لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولعمه العباس.
- 5000 درهم لأهل بدر وألحق بهم الحسن والحسين.
- 4000 درهم لمن كان إسلامه كأهل بدر ولكن لم يشهدها وألحق بهم أسامة بن زيد.
- 3000 لعبد الله بن عمر وبعض أبناء المهاجرين والأنصار كعمر بن أبي سلمة.
- 2000 درهم لأبناء المهاجرين والأنصار.
- 800 درهم لأهل مكة.
- 400/300 لسائر الناس.
- 600 إلى 200 لنساء المهاجرين والأنصار.
- 9000 لأمراء الجيوش والقراء.

وهكذا كان الحال, فلما كثر الناس عن حاجة الغزو والجهاد، ولدواعي قيام الحضارة العمرانية اشتغل كثير من الأمة بغير الجهاد من الصنائع، فلجأت الدولة للجيش النظامي وأصبح هناك دواوين خاصة بالجند ينالون منها الرواتب الخاصة بهم على رأس كل سنة.
ثالثًا: تجهيز الجيوش وآلات القتال من سلاح وذخائر وخيل وما يقوم مقامهما.
رابعًا: إقامة المشروعات العامة من جسور وسدود وتمهيد الطرق والمباني العامة ودور الاستراحة والمساجد.
خامسًا: مصروفات المؤسسات الاجتماعية مثل المستشفيات والسجون وغير ذلك من مرافق الدولة.
سادسًا: توزيع الأرزاق على الفقراء واليتامى والأرامل وكل من لا عائلة له, فالدولة تعوله وتكفله, ومن العرض السابق يتضح لنا النظام الاقتصادي الدقيق الذي ابتكرته الحضارة الإسلامية في خطواتها الأولى ومبكرًا جدًا قبل أي حضارة أخرى سابقة أو حتى لاحقة, فهي صاحبة السبق في تنظيم الموارد والمصارف المالية الخاصة بالدولة، ويبقى بعد هذه الموارد والمصارف كلها أنه قد تفاجأ الدولة بكارثة أو مجاعة أو قحط شديد أو وباء قاتل، وهنا يكون ندب الأغنياء من المسلمين من غير إكراه للصدقة والعطاء لإنقاذ جمهور المسلمين، كما فعل عثمان بن عفان مع المجاعة في عهد أبي بكر الصديق عندما تصدق بأموال طائلة لنجدة المسلمين، وكما فعل عبد الرحمن بن عوف أيام عمر بن الخطاب، وأمثال ذلك كثير عبر التاريخ الإسلامي، مما يضمن استمرارية تدفق الأموال على خزينة الدولة دون إكراه أو مصادرة أو إجبار.
وهكذا نرى أن المنظومة الاقتصادية في الحضارة الإسلامية كانت تمثل معلمًا بارزًا من معالم تلك الحضارة، ضمنت لتلك الحضارة وتلك الدولة المسلمة الاستقلالية والاستمرارية والتوسع والانتشار، وأيضًا الشفافية في التعامل والحرية في اتخاذ قراراتها، فإن الدولة متى اعتمدت على غيرها في المساعدات والقروض، فقد تخلَّت طواعية عن سيادتها واستقلاليتها لصالح من تأخذ منه الأموال، وهذا وقع بالفعل لكثير من بلاد المسلمين الآن، وهذا رغم تراثهم العظيم والحافل من رصيد التجربة في الحضارة الإسلامية.
المصدر: موقع مفكرة الإسلام.


تابع القراءة Résumé abuiyad

الفنادق في الحضارة الإسلامية .. أسبقية وإبداع

0 التعليقات
عرفت الحضارة الإسلامية نظام الفنادق منذ أيام الإسلام الأولى؛ فقد أشار القرآن الكريم إلى جواز دخول الأماكن العامة -ومن جملتها الفنادق- دلالة على واقعية الإسلام واجتماعيته، فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29]. وقد عَلَّق الإمام الطبري على هذه الآية الكريمة بقوله: "ليس عليكم أيها الناس إثم وحرج أن تدخلوا بيوتًا لا ساكن بها بغير استئذان، ثم اختلفوا في ذلك، أيّ البيوت عَنَى؟ فقال بعضهم: عنى بها الخانات والبيوت المبنية بالطرق التي ليس بها سكان معروفون، وإنما بُنيت لمارَّة الطريق والسابلة؛ ليأووا إليها، ويُئووا إليها أمتعتهم"(1).
وقد انتشرت الخانات على طول الطرق التجارية بين المدن الإسلامية، وكان أكثر رُوَّادها من التجار وطلبة العلم، فكانت هذه الدور تُقَدِّم الضيافة من الطعام والشراب مجانًا للفقراء والمساكين وأبناء السبيل، ومن ثَمَّ أُطلق على الخانات التي ظهرت وكانت تُقَدِّم الطعام مجانًا دار الضيافة(2).
وقد كانت هذه الخانات بمنزلة المأوى الحقيقي الذي أعدَّته الدولة أو فاعلو الخير للمسافرين، فكانت تحميهم من حرِّ الصيف وبرودة الشتاء، فقد ذكر سعدان بن يزيد -وهو من علماء القرن الثالث الهجري- أنه التجأ إلى أحد الخانات في ليلة مطيرة فيها رعد وبرق وذلك في عام (262هـ)، فوجد الخان قد شُغلت جميع غرفه وأَسِرَّته؛ نتيجة البرد الشديد(3).
وقد كانت هذه الخانات مهيأة بحيث يستطيع طلبة العلم أن يُذَاكروا فيها دون ضوضاء أو ضجيج، فقد ذكر ابن عساكر أن "أبا عمرو الصغير قال: نزلنا بعض الخانات بدمشق قُرب القصر فصلينا العصر، ونحن على أن نُبَكِّر إلى أحمد بن عمير، فإذا الخاني (القائم بأعمال الفندق) آتٍ يعدو ويقول: أين أبو علِيٍّ الحافظ؟ فقلتُ: ها هنا. فقال: قد حضره الشيخ زائرًا. فغدوتُ فإذا الشيخ راكب على بغلة في الخان، فنزل عن البغلة، وصعد الغرفة التي نزلنا فيها، وسلَّم على أبي علِيٍّ، ورحَّب به، وأظهر الفرح بوروده، وأخذ في المذاكرة معه إلى أن قربت العتمة، ثم قال: يا أبا علِيٍّ، جمعتَ حديث عبد الله بن دينار؟ فقال أبو علِيٍّ: نعم. فقال: أخرجه إليَّ. فأخرجه أبو عليٍّ، فأخذه ووضعه في كفِّه وقام فركب"(4).
وكان وجود مثل هذه الفنادق عاملاً مساعدًا لطلبة العلم في الذهاب إلى أي قطر من أقطار الدولة الإسلامية، فقد ذكر الذهبي أن علاَّمة الأندلس بقيّ بن مخلد قد أتى إلى بغداد لتعلُّم الحديث من الإمام أَحمد بن حنبل -وكان تحت الإقامة الجبرية، عقيب خروجه من السجن في محنة خلق القرآن- ولما أيقن من طول مُقامه في بغداد أجَّر غرفة في أحد فنادقها، فكان يذهب إلى الإمام أحمد كل يوم في هيئة رجل مسكين، فيأخذ منه الحديث والحديثين، فيرجع إلى غرفته في الفندق، حتى سُمح لأحمد بن حنبل بإلقاء دروسه علانية(5).
بل اهتم كثير من الخلفاء بتشييد هذه الخانات والفنادق، حيث كانت تابعة لإدارة الدولة، يُنفق من خلالها على المسافرين والفقراء وطلاب العلم، وقد اشتهر الخليفة المستنصر بالله (ت 640هـ) ببنائه لهذه الفنادق، التي كانت تؤوي الفقراء وأبناء السبيل(6).
وممن اشتهر ببناء الفنادق المجانية الأمير نور الدين محمود؛ فقد نقل أبو شامة في "الروضتين" عن ابن الأثير، أن نور الدين محمود "بَنَى الخانات في الطرق، فأَمِنَ الناس، وحُفظت أموالهم، وباتوا في الشتاء في كَنٍّ(7) من البرد والمطر"(8).
ومما يلفت الانتباه أن بعض النساء قد اهتممن بتشييد الفنادق والخانات، رغبة منهن في طلب الأجر والثواب من الله تعالى؛ فقد بَنَتْ عصمة الدين بنت معين الدين أنر زوجة صلاح الدين المتوفاة عام (581هـ) فندق عصمة الدين في مدينة دمشق(9)، كما بنت امرأة أخرى -لم يذكر ابن عساكر اسمها- فندق ابن العنَّازة في دمشق أيضًا(10).
وقد كانت بعض هذه الخانات تحتوي على قسم خاص لحفظ الأمانات والأموال، فكانت بمنزلة البنك في عصرنا الحاضر، وكان القائمون عليها من الرجال والنساء على السواء، ولم يكن يُسمح بِرَدِّ الأمانات والأموال إلا لأصحابها دون غيرهم، وهذا ما يذكره ابن الجوزي في حوادث عام (571هـ)، إذ قال:
"إن رجلاً من التجار باع متاعًا له بألف دينار، وأنزل المال في خان أنبار (في بغداد) وجاء إلى بيته وليس معه في الدار إلا مملوك له أسود قد اشتراه قبل ذلك بأيام، فقام المملوك في الليل فضربه بسكين في فؤاده، وأخذ المفتاح ومضى إلى خان أنبار، فطرق باب الخان، فقالت الخانية: من أنت؟ قال: أنا غلام فلان، قد بعث بي لآخذ له شيئًا من الخان. فقالت: والله ما أفتح لك حتى يجيء مولاك. فرجع ليأخذ ما في البيت، فاتفق أن حارس الدرب سمع صيحة الرجل وقت أن ضُرِبَ بالسكين، فأمسك الغلام، وبقي مولاه في الحياة يومين، فوصَّى بقتل الغلام بعده، فصُلِب المملوك بالرحبة بعد موت مولاه"(11).
وقد اشتهرت بعض مدن الأندلس بفنادقها الكثيرة والعامرة؛ حيث ذكر الحميري في كتابه (صفة جزيرة الأندلس) أن مدينة ألمرية الأندلسية "فيها ألف فندقٍ إلا ثلاثين فندقًا(12). وفي كثرة هذه الفنادق، دليل على العدد الهائل من زوَّار وقُصَّاد هذه المدينَة العريقة.
وقد انتشرت هذه الفنادق بصورة واسعة في الأندلس منذ عهد الدولة الأموية، لكن بعضها كان يحيد عن الآداب العامة، فكان الأمراء يسعون في هدمها؛ لما تُحدثه من فوضى أخلاقية في المجتمع، ففي عام (206هـ) "أمر الحكم بن هشام بهدم الفندق الذي كان بالربض، وكان متقبله من أهل الإضرار والفسق؛ فهُدم"(13). ولا شكَّ أن مثل هذه الأفعال الماجنة التي كانت تَحْدُث في بعض الفنادق قديمًا، هي بعينها ما نراه أو نسمع عنه في كثير من فنادقنا الحديثة، ولكن شتان بين الأمرين؛ إذ كان الخلفاء والأمراء يتصدَّوْن لهذه المفاسد بكل حزمٍ وقوة، ويأمرون بإنزال أقصى أنواع العقوبة على هذه الفنادق، فيهدمونها، ولكن الأمر بالنسبة لفنادق هذا العصر عكس ذلك بكثير!
كما اهتم بعض السلاطين بعمارة كثير من الفنادق، ووَقَفَهَا للفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فقد وافق سلطان المرينيين في المغرب أبو يعقوب يوسف المريني (ت 706هـ) بإعادة ترميم فندق الشماعين بمدينة فاس بعدما خرب، وجعله حبسًا لرُوَّاد جامع المدينَة(14).
وقد انتشرت الخانات والفنادق في عهد الدولة المملوكية بصورة واسعة جدًّا، لكن الجديد الذي أضافته هذه الدولة في مسار الحضارة الإسلامية، أنها أقامت فنادق خاصة للجاليات الصغيرة الموجودة في مصر والشام من التجار والرحالة الغربيين، فقد ذكر المقريزي أن القبارصة الذين هاجموا مدينة الإسكندرية في عام (783هـ)، قد أحرقوا كثيرًا من الدور والحوانيت والفنادق، وقال: "إن الملاعين أحرقوا فندق الكيتلانيين، وفندق الجنويين، وفندق الموزة، وفندق الموسليين"(15). وهذه الفنادق التي ذكرها المقريزي كانت مخصصة للتجار الأوربيين والإيطاليين، مثل تجار مدينَة جنوة الإيطالية؛ مما يُدلل على اهتمام الحضارة الإسلامية بغير المسلمين من تجار أوربا في فترة قرونهم الوسطى.
بل حرصت الدولة على أن تُخَصِّصَ لأصحاب كل مهنة فندقًا خاصًّا بهم؛ فقد كان هناك فندق لتجار الزيت الشاميين، وهو فندق طرنطاي في مدينة القاهرة.
وبعد هذه الإطلالة السريعة على مجموعة من أعظم وأعرق النظم الإسلامية، فإننا نشعر أن ثمة قيمة ترسَّخت في وجداننا.. إنها إنسانية هذه الحضارة التي قامت على دِعامة لن تنفكّ عنها أبدًا، وهي دعامة الأخلاق المستقاة من معين ربَّاني لا ينضب أبد الدهر.

تابع القراءة Résumé abuiyad

الدبلوماسية في التاريخ الإسلامي

0 التعليقات


إنَّ أول من استعان بالدبلوماسية في الإسلام كان الرسولَ الأعظمَ صلَّى الله عليه وسلَّم إذ بعث برسلٍ إلى بيزنطة وفارس، ومصر والحبشة وبلاد أخرى.
ويروي مؤرِّخو السير وكتَّاب التاريخ الإسلامي أسماءَ الرسل الذين أوفدَهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهم:
شجاع بن وهبٍ الأسَدي إلى شَمر بن الحارث ملِكِ الغساسنة بالشام، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقِس صاحب مصر، وعمرو بن العاص إلى جَيْفر وعبادٍ الأَسَديَّيْن في عمَّان، ودحية الكلبي إلى قيصرَ ملِك الروم، وعمرو بن أميَّة الضّمري إلى النجاشي في الحبشة، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوَى العبدي وأهل البحرين، والمهاجر بن أبي أميَّة المخزومي إلى الحارث بن عبد كلالٍ ملك اليمن، وعبدالله بن حذافة إلى كسرى ملِك الفرس.
وزوَّدهم بكتب هي وثائقُ تؤيِّد صحة انتدابِهم كما توضِّح الغرض منه، كما بعث النبي الأمين المبعوثين السِّرِّيين الموثوق بهم إلى البلاد التي يهتمُّ بمعرفة أحوالها، فقد عيَّن عمه العباس مبعوثًا سريًّا في مكَّة، والمنذر بن عمرو بن خنيس الساعدي المكنى بالمعنق ليموت في نجد، وكانت مهمة المبعوثين السريين تزويدَ النبيِّ بالمعلومات عن أحوال وأحداث الجِهة التي بُعثوا إليها، هذا من الجهة الإسلامية، أمَّا من الجهة المقابلة، فقد عرَف الإسلام في بداية إشراقه وفي عهد الرَّسول الكريم نظامَ استقبال السُّفراء والرسل، وكان صلوات الله عليه يستقبلُهم في الجامع الكبير في المدينة.
وجاء في سيرة ابن هشام ص 622 أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم والصَّحابة رضوان الله عليهم كانوا يلبَسون أحسن الثِّياب عند استقبالهم الوفود والرسل، غيرَ أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتقيَّد بهذا الأسلوب من الرسميَّات ومارس البساطة؛ حتى إنَّ سفير قيصرِ الروم لَمَّا أوفده وجده نائمًا تحت شجرة، وفي رأيي أنَّ الخليفة عمر قد أراد أن يُرِيَ سفير قيصر الروم الفرقَ الشاسع بين البساطة التي يعيشها خليفة المسلمين، وبين الأبَّهة والتَّرف اللذين يعيشُهما القيصر البيزنطي، ويُضرب بهما الأمثال، واللذان لا تزالُ تعاني الدُّبلوماسية العالمية من تأثيرهما فيها.
وكان صاحبُ الرسالة يستقبل الوفود باحتفالٍ وَفْق المراسيم والعادات العربية، وكان سفراءُ الدول الإسلامية يحترمون تقاليدَ الدول التي يُوفدون إليها ولا يخرجون عنها، إلا إذا تعارضت مع أحكام الدين، كعادة السُّجود للملوك التي كانت شائعةً في العهود القديمة.
وكان المسلمون يعترفون للمبعوثِ الأجنبي بالحصانة دون حصولِه على وثيقة أمان، ولم يقصُرِ المسلمون صفةَ المفاوض الدُّبلوماسي على ممثِّلي الملوك والحكومات، بل كان التسامح الإسلامي يتَّسع إلى حد إضفاء صفةِ المفاوض على كلِّ من يجادل في موضوعٍ يخصُّ الدعوة الإسلامية، حتى إنَّ هذا التسامح شمل بأمرٍ من النبيِّ صلواتُ الله عليه وسلامُه مبعوثي مسيلمةَ الكذَّابِ مع أنهما أساءا القول.
وقد أجمعت كتب السِّيَر على ذكر رواية أبي رافعٍ الذي جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم موفَدًا من قريشٍ، وبعد مُثوله بين يديه، آمَنَ وعزم على ألاَّ يرجع، فقال له النبيُّ: ارجعْ، فإن كان في قلبِك الذي فيه الآن، فارجعْ إلينا، وهذا الحادث يدلُّ على مدى تقدير الرَّسول الأعظمِ للأمانة التي يجبُ أن يتخلَّق بها السفير، وإلزامه بتأديتِها بإخلاص.
ومن أهم المصادر عن تاريخ دبلوماسية الإسلام والدول الإسلامية، الكتاب الذي وضعه أبو عليٍّ الحسين بن محمد المعروفُ بابن الفرَّاء، واسمه: "رسُلُ الملوك ومن يصلح للرسالة والسِّفارة"، وهو يتناول بالتَّفصيل كيف رفع فقهاءُ المسلمين منزلةَ الرسول والسفير، واعتبروا أنها تستمدُّ حرمتها من مكانةِ الرُّسل الذين يبعث بهم الله عز وجل إلى عباده ليبلغوا رسالته، ناهيًا عن التعرُّض لمهمتهم والمساس بأشخاصِهم، قد استنبطوا من نواهي الدين وأوامره تجاه تعظيم الرسل أساسًا لمعاملة رسل الملوك والخلفاء معاملة كريمةً؛ مستشهدين بالآيات الكريمة العديدة التي يحتويها القرآن في هذا الصَّدد، منها: ما ورد في سورة المزمّل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15-16]، ومنها: ما ورد في سورة إبراهيم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، ويعلِّق ابن الفرَّاء على هذه الآية الكريمة مستنتجًا أن يكون السَّفير قادرًا على تفهُّم لغة مَنْ يرسل إليهم، وقد اعتبر الإسلام المفاوضة شرطًا أساسيًّا لا بد من توفُّره قبل اللجوء إلى الحرب؛ وذلك اتِّباعًا لِما جاء في قوله - تعالى - في سورة الإسراء: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى في سورة القصص: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59]، ويعلِّق ابنُ الفراء على هاتين الآيتين بقوله: وقد فضَّل الله سبحانه المرسَلين من أنبيائه على غير المرسلين؛ لتبليغ الرسالة، وتحمُّل ثقل الأمانة، والصبر على أذى الكافرين، وتكذيب الجاحدين، وأورد ابن الفراء ما أسماه بالحكمة التي تقول: (إنَّ الكتاب يدٌ، والرسول لسان)، وأنَّ الواجب على الملوك أن يقرنوا كتبَهم بالرُّسل؛ لِما في ذلك من اكتمال الفائدة ووجود الحجَّة، ولقطع الرسول الأمر؛ إذ كان مأمورًا من غير مراجعة، ولا احتياج لاستئذان مرسلِه.
واستشهد بقول عبدالله بن جعفر بن أبي طالب: إِذَا كُنْتَ فِي حَاجَةٍ مُرْسِلاً فَأَرْسِلْ حَكِيمًا وَلاَ تُوصِهِ
وقد جاء في كتاب أخلاق الملوك للجاحظ المتوفى عام 255 هجرية تحت عنوان "آداب السَّفير" ما نصه:
"ومن الحقِّ على الملك أن يكون رسولُه صحيح الفِطرة والمزاج، ذا بيانٍ وعبارة، بصيرًا بمخارج الكلام وأجوبتِه، مؤدِّيًا لألفاظ الملِك ومعانيها، صادق اللَّهجة، لا يميل إلى طمَعٍ أو طبْع، حافظًا لِما حمِّل، وعلى الملك أن يمتحنَ رسولَه محنةً طويلة قبل أن يجعلَه رسولاً".
وقد وضع الدُّكتور نجيب الأرمنازي رسالة دكتوراه في جامعة باريس موضوعها: "الشَّرع الدولي في الإسلام" عام 1930، وقد عالج فيها مواضيعَ تتعلَّق بالدبلوماسية الإسلامية، تبدأ بعدم جواز القتال ما لم تبلغ الدعوة، ويجرِ التفاوضُ من أجلها، ثم مبدأ التحكيم وما يقتضيه من مفاوضة، والمعاهدات التي عقدها المسلمون مع الرُّوم في العهدين الأموي والعباسي، عن طريق إيفاد مبعوثين يتولَّوْن مهمة دبلوماسية معيَّنة.
ويُستنتج من ذلك أن المسلمين اتَّبعوا أسلوب الدبلوماسية المتقطِّعة لا الدائمة، كما تناوَل كيفية إرسال السُّفراء واستقبالهم، وما يواكب ذلك من مراسيمَ وأصولٍ، ثم المراسلات السِّياسية والتِّجارية، وكيف أنَّها كانت تُجرى بأساليبَ ورسومٍ متقنةِ الوضع، ونوَّه بما جاء في كتاب "الخراج" للإمام أبي يوسف، و"السير الكبير" للإمام محمد بن الحسن الشيباني، من إعفاء الدُّبلوماسيين من الضرائب، إلا إذا كان ما لديهم يستهدف التِّجارة فتؤخذ الرسوم عليه.
ومما يسترعي الاهتمام اقتباسُ اللغات الأوروبية عن اللغة العربية كلمةَ تعريفة للرسوم الجمركية، كما اقتبس الغربيون كلمة: أميرال من التركيب العربي: أمير الماء.
ومن المعلومات الطَّريفة حول النشاط الدبلوماسيِّ الإسلامي العربي في العصور الوسطى، ما اختاره الدكتور إبراهيم أحمد العدوي في كتابه: "السفارات الإسلامية إلى أوربا في العصور الوسطى"، وقد ضمَّنه معلوماتٍ تاريخيةً قيِّمة، بدأها بحقوق الجوار التي كانت تقوم على أساسها العَلاقاتُ بين الدولة الإسلامية وبيزنطة، وفيها مثَل طيِّب للتعايش السِّلمي الذي بدأ منذ قيام الدولة الأموية، واتِّخاذها دمشق عاصمةً لخلافتها، واستقرار حدودها عند سلسلتي جبال "طوروس"، التي غدَت حدًّا فاصلاً بين المسلمين والروم، ثم انتقل الدكتور العدوي إلى دبلوماسية التوازن الدولي الذي حدث نتيجة انفصالِ الأندلس عن الدولة الإسلامية عام 751م إِثْرَ قيام العبَّاسيين على عرض الخلافة، فأصبحت في العالم دولتانِ عربيَّتان مسلمتان تقابلُهما دولتانِ نصرانيتان، هما: إمبراطوريَّة الرُّوم البيزنطية، ودولة الفرنجة في أوربا، والتي بلغت أَوْجَ مجدِها في عهد شارلمان أو كارل الكبير كما يسميه الألمانُ عام 800م، وأصبحت منافسًا خطيرًا لأباطرة الرُّوم في ميدان الرعاية على العالم النصراني مستعينةً بدعم البابوية الروحي لها، وقد أدى ذلك إلى تدهور مركز إمبراطورية الروم الشَّرقية في العالم النصراني،حيث فقدت زعامتَها على نصارى غرب أوربا.
إن هذا الوضع السياسي الجديد قد أدَّى إلى ازدياد في النشاط الدبلوماسي؛ ذلك أن الخلافة العباسية في بغدادَ لم تعُدْ ترسل سفاراتِها إلى القسطنطينية فحسب، وإنما بدأتْ تبعث إلى بلاط الفرنجة؛ لتجعل من تلك القوَّة الجديدة سندًا لها في منافستِها للأُمويِّين في الأندلس، وفي نفس الوقت لم يعُدِ الروم يرسلون سفاراتهم إلى بغداد فحسب، وإنما أخذوا يرسلونَها إلى قرطبة عاصمة الدولة الأموية، ليجعلوا منها عضدًا لهم، واقتبس المؤلِّف رسالةً وجَّهها إمبراطور الروم: تيوفيل 829م إلى الخليفة العبَّاسي المأمون بشأن تبادل الأسرى وإعادة الحياة الاقتصادية بين المسلمين والروم، وجاء في تلك الرسالة: "وقد كتبتُ إليك داعيًا إلى المسالمة، راغبًا في فضيلة المهادنة؛ لنضع أوزار الحرب عنَّا، ويكون كلُّ واحد لكل واحد وليًّا وحزبًا، مع اتصال المرافق، والفسح في المتاجر، وفك المستأسر، وأمن الطَّريق".
وردَّ الخليفة المأمون مجيبًا طلب الإمبراطور البيزنطي؛ حتى تعود الحياة بين الطَّرفين إلى مجراها الطبيعي، وكان يسمح لحاملي تلك الرسائل بزيارة معسكراتِ اعتقال الأسرى؛ ليتأكدوا من حُسن معاملتهم، وليتعرفوا على كلٍّ منهم، وكان من أغراض الدبلوماسية الإسلامية محاولةُ معرفةِ قوَّة جيرانهم، ومدى بأسهم، والتأكُّد من صحة طلب الفريق الآخر للصُّلح، أو للمهادنة، أو تبادل الأسرى.
وكان من مهمة السفراء أن يعلَموا حالة الطرُق والأمكنة التي توجد فيها المروج والأعشاب والحشائش للعلف، وكذلك قوَّة الجيش ومَؤونته في العَدَد والعتاد وفي الدِّفاع والهجوم، وأن يعرفوا كلَّ ما يتعلَّق بأمور البلاد الأجنبية من النواحي الشخصية والعامة، كما أنَّ الدُّبلوماسية الإسلامية في العهد العباسي كانت تتوخَّى من سفاراتِها أغراضًا علميَّة.
ومن أمثلة ذلك: أنَّ الخليفة المأمونَ علِمَ أنَّ في القسطنطينية أستاذًا مشهورًا بالرِّياضيَّات، فأرسل إلى الإمبراطور البيزنطي: "تيوفيل" سفارةً خاصة تحمل رسالةً شخصيَّة تطلب منه أن يسمح للأستاذ "ليو" بالحضور إلى بغدادَ فترة قصيرة، وقال المأمون في رسالته: "إنه يعتبر ذلك عملاً وديًّا، ويعرض على الدولة البيزنطية صلحًا دائمًا، وألفَيْ قطعة ذهبية في مقابل ذلك"، غيرَ أن الإمبراطورَ البيزنطيَّ رفض هذا العرضَ السَّخيَّ؛ لأن بعض أبحاث العلماء كانت تُعتبر في ذلك العهد من أسرار الدولة، وقد قامت في العهد العباسيِّ بين العباسيِّين وروما ومملكة البلغار والهند والصين، بالإضافة إلى القسطنطينية والفرنجة - علاقاتٌ دبلوماسيَّة.
ومن نشاطات الدبلوماسية العربية العلميَّة ما قام به الخليفة العباسي الواثق بالله 842 - 847؛ إذ أرسل وفدًا إلى الإمبراطور: "دقليديانوس" لزيارة الكهف الوارد ذكرُه في القرآن الكريم، وقد بحث المؤلِّف الدكتور العدوي موضوع تشكيلِ السفارة، وطرُقَ اختيار السفراء وصفاتِهم، وما يجب أن يتمتَّعوا به من مواهب ومميِّزات، وألَمَّ بالمراسيم الدبلوماسية، وتقديم أوراق الاعتماد، وجوازات السفر والحصانة، ومراسيم الاستقبال، والتعليمات التي كان يزوَّد بها السفراء، وتحدَّث عن السفارات الإسلامية المبكِّرة مع الروم؛ كسفارة عامر بين شَراحيل الشَّعْبي في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، وعرَض صورة رائعةً للدعايات الدبلوماسية التي كان يقوم بها السُّفراء العرب في تمثيل بلادهم، وعرَض وصفًا دقيقًا للاستعدادات التي كانت تقوم بها بغدادُ في عهد الخليفة المقتدر العباسي تجاه سفارات الإمبراطور "قسطنطين السابع"، وحفل تقديم أوراق الاعتماد، وبرامج الترفيه، وصورة رائعة أخرى لسفارة الخليفة "هارون الرشيد" للإمبراطور "شارلمان"، والهدايا التي حملتْها معها تلك السفارةُ من مراسيمَ وخطبٍ سياسيَّة أخَّاذة، ولعل أبهى لوحة رسمها المؤلِّف في كتابه هذا تلك التي اختصت بسفارة يحيى بن حكم الغزال إلى الجزر البريطانية موفَدًا من الدولة الأُموية في الأندلس، وكانت بريطانيا آنذاك يحكمها "النورمان"، وملكها اسمه "توركايوس"، وعاصمتُه في شمال أيرلندا، إنَّ هذه اللوحة جديرة بأن تُعرض على المسارح؛ لأنَّها تمثِّل علاقاتٍ تاريخيَّة نادرة في دبلوماسية القرون الوسطى.
ونختتم بحثَنا هذا في دبلوماسية المسلمين بأنها تمثِّل مرحلة متقدِّمة في تطور الدبلوماسية في العالم، فإنها قد استوفت أهمَّ خصائص الدبلوماسية الحديثة التي تقوم على ارتباطٍ وثيق بين السياسة والقانون والإستراتيجية والاقتصاد، وإنَّ الرُّوح التي سادت الدبلوماسية جاءت منطبقةً على الحديث الشريف: "أنا نبيُّ الرَّحمة، أنا نبيُّ الملحمةِ"؛ هذا الحديث الكريم الذي يوفِّق بين الرحمة والعدلِ والسياسة والحرب، كما أنَّ الدبلوماسيَّة الإسلامية - العربية كانت مرِنةً، وقامت على أساس تقديرِ مصالحِ الدولة والدفاع عن كِيانها، فقد دخل صلاحُ الدين الأيُّوبي في تحالف مع بيزنطةَ المسيحيَّةِ النصرانية ضدَّ الغزو الصليبيِّ بين عامي 1185 و 1188م.
وما زالت الدبلوماسيَّة الإسلامية في حاجة إلى مزيدٍ من البحث والتَّحقيقِ، ولم أطلعْ على عنايةٍ للفقهاء المتأخِّرين في الاستزادة في البحوث ذات العلاقة بالدبلوماسية الإسلامية.

تابع القراءة Résumé abuiyad

فن الزخرفة في الحضارة الإسلامية

0 التعليقات

اتجه الفنان المسلم إلى عوالم جديدة بعيدة عن رسم الأشخاص، وبعيدة أيضًا عن محاكاة الطبيعة، وهنا ظهرت عبقريته وتجلَّى إبداعه، وعمل خياله، وحِسَّه المرهف، وذوقه الأصيل، فكان من هذه العوالم عالم الزخرفة.

فإذا كانت صناعة الجمال هي وظيفة الفنِّ الإسلامي، فإن الزخرفة تُعَدُّ واحدة من الوسائل المهمَّة التي تصنع ذلك الجمال؛ فهي العمل الخالص الذي لا يُقْصَدُ به إلاَّ صُنْعَ الجمال، وهنا يلتقي شكلُ العمل الفني بمضمونه لِيُكَوِّنَا وَحدة متماسكة لِصُنْعِ الجمال ظاهرًا وباطنًا، الأمر الذي لا نكاد نجده في أي نوع آخر من الفنون[1].

خصائص الزخرفة الإسلامية

اتخذت الزخرفة الإسلامية خصائص مميِّزة كان لها عظيم الأَثَرِ في إبراز المظهر الحضاري لنهضة المسلمين، وازدهرت بدرجة عالية، سواءٌ من حيث تصميمها وإخراجها أو من حيث موضوعاتها وأساليبها، واستخدم التقنيون المسلمون خطوطًا زخرفية رائعةَ المظهر والتكوين، وجعلوا من المجموعات الزخرفيَّة نماذج انطلق فيها خيالهم إلى اللانهاية والتكرار والتجدُّد والتناوب والتشابك، وابتكروا المضلَّعَات النجمية وأشكال التوريق، وأشكال التوشح العربي الذي أطلق عليه الأوربيون (الأرابيسك Arabesque)، ولا يزال هذا النسق العربي في الزخرفة يحظى بالاهتمام في بلدان عديدة منذ ظهر لأوَّل مَرَّة في الزخرفة الفاطمية، وفي مسجد الأزهر، في منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وقد حذق أهل تقنية الزخارف المعمارية الإسلامية صنعةَ النحت المسطَّح والغائر على الخشب، أو الحجارة، أو الرخام، ومهروا في استخدام الموادِّ الملوَّنة، وإجادة النقوش[2].

هذا، وتُعَدُّ العناصر النباتية، وكذا العناصر الهندسية مقوِّمَات أساسية في بناء هذا الفنِّ، تتعاون مع بعضها تارة، وتنفرد كل منهما على حِدَةٍ تارة أخرى، وعلى هذا فهناك نوعان من الزخرفة: الزخرفة النباتية، والزخرفة الهندسية[3].

الزخرفة النباتية

وتقوم الزخرفة النباتية أو (فنُّ التوريق) على زخارف مُشَكَّلَة من أوراق النبات المختلفة والزهور المنوَّعة، وقد أُبْرِزَتْ بأساليب متعدِّدَة من إفراد ومزاوجة وتقابُل وتعانق، وفي كثير من الأحيان تكون الوحدة في هذه الزخرفة مؤلَّفة من مجموعة من العناصر النباتية متداخلة ومتشابكة ومتناظرة، تتكرَّرُ بصورة منتظمة.

وبإعمال الفنان المسلم خيالَه استطاع أن يبتعد بفنِّه عن تقليد الطبيعة، فجاءت توريقاته عملاً هندسيًّا، أُمِيتَ فيه العنصرُ الحيُّ، وساد فيه مبدأ التجريد، وقد انتشر استعمال هذه الزخارف في تزيين الجدران والقباب، وفي التحف المختلفة (نحاسيَّة وزجاجية وخزفية)، وفي تزيين صفحات الكتب وتجليدها.

الزخرفة الهندسية

الزخرفة  الهندسيةوهي النوع الآخر للزخرفة الإسلامية؛ حيث برع المسلمون في استعمال الخطوط الهندسية، وصياغتها في أشكال فنية رائعة، فظهرت المضلَّعات المختلفة، والأشكال النجمية، والدوائر المتداخلة، وقد زَيَّنَتْ هذه الزخرفةُ المباني، كما وشحت التحف الخشبية والنحاسية، ودخلت في صناعة الأبواب وزخرفة السقوف؛ ممَّا يُعَدُّ دليلاً على عِلْـمٍ مُتَقَدِّمٍ بالهندسة العملية.

وقد استطاع المسلمون استخراج أشكال هندسية متنوِّعة من الدائرة، منها المسدس والمثمن والمعشر، وبالتالي المثلث والمربع والمخمَّس، ومن تداخُل هذه الأشكال مع بعضها وملء بعض المساحات وترك بعضها فارغًا نحصل على ما لا حصر له من تلك الزخارف البديعة، التي تستوقف العين، لتنتقل بها رويدًا رويدًا من الجزء إلى الكل، ومن كُلٍّ جزئيٍّ إلى كُلٍّ أكبر.

وكان همُّ الفنان المسلم وشُغْلُه الشاغل، أن يبحث عن تكوين جديدٍ مُبْتَكَرٍ يتولَّدُ من اشتباكات قواطع الزوايا أو مزاوجة الأشكال الهندسية؛ لتحقيق مزيدٍ من الجمال الرصين، ومن أمثلة الأشكال الهندسية التي استعملها: الدوائر المتماسَّة والمتجاورة، والجدائل والخطوط المنكسرة والمتشابكة.

ومن أبرز أنواع الزخارف الهندسية التي امتازت بها الفنون الإسلامية: الأشكال النجمية متعدِّدَة الأضلاع، والتي تُشَكِّلُ ما يُسَمَّى (الأطباق النجمية)، وقد اسْتُخْدِمَ هذا الضرب من الزخارف في زخارف التُّحَفِ الخشبية والمعدنية، وفي الصفحات المُذَهَّبَة في المصاحف والكتب، وفي زخارف السقوف.

ولقد كان الناقد الفرنسي هنري فوسيون (H. Faucillon) دقيق التعبير عميق الملاحظة حينما قال: "ما أخال شيئًا يمكنه أن يجرِّد الحياة من ثوبها الظاهر، وينقلنا إلى مضمونها الدفين مثل التشكيلات الهندسية للزخارف الإسلامية؛ فليست هذه التشكيلات سوى ثمرة لتفكير قائم على الحساب الدقيق، قد يتحول إلى نوع من الرسوم البيانية لأفكار فلسفية ومعانٍ رُوحية. غير أنه ينبغي ألاَّ يفوتنا أنه خلال هذا الإطار التجريدي تنطلق حياةٌ متدفِّقة عَبْرَ الخطوط، فتؤلّف بينها تكوينات تتكاثر وتتزايد، متفرِّقة مَرَّة ومجتمعة مَرَّات، وكأن هناك رُوحًا هائمة هي التي تمزج تلك التكوينات وتُبَاعِدُ بينها، ثم تُجَمِّعُهَا من جديد، فكلُّ تكوين منها يَصْلُح لأكثرَ من تأويل، يتوقَّفُ على ما يُصَوِّبُ عليه المَرْءُ نظرَه ويتأَمَّلُه منها، وجميعها تُخْفِي وتكشف في آنٍ واحد عن سِرِّ ما تَتَضَمَّنُه من إمكانات وطاقات بلا حدود"[4].
الزخرفة  الإسلاميةومن أبرز العمليات الفنية في الزخرفة الإسلامية: الترصيع، التكفيت، التلبيس، التعشيق، التطعيم، التجصيص، القرنصة، التزويق، التصفيح، التوشيع. ومن أبرز الموادِّ المستخدمة فيها: الرخام، الجصُّ، الخشب، المعادن، الآجُرّ، الفسيفساء، القاشاني، الخزف.

وعن فنِّ الزخرفة وبيان غايته وخصائصه يقول روجيه جارودي[5]: "إنَّ فنَّ الزخرفة العربي يتطلَّع إلى أن يكون إعرابًا نمطيًّا عن مفهوم زخرفي، يَجْمَعُ بآنٍ واحد بين التجريد والوزن، وإن معنى الطبيعة الموسيقي، ومعنى الهندسة العقلي، يُؤَلِّفَان دومًا العناصر المقوّمَة في هذا الفنِّ"[6].

تابع القراءة Résumé abuiyad

الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

فتح مكة وعبرته لحاضر المسلمين ومستقبلهم

0 التعليقات

كانت هناك هدنة الحديبية خيرًا على المسلمين، فقد قضوا خلالها على يهود في المدينة المنورة وخارجها عسكريا، فلم يعد لهم أي خطر عسكري يهدد المسلمين. كما أتاحت للمسلمين السيطرة على القبائل العربية في شمالي المدينة حتى حدود الشام والعراق، وانتشر الإسلام بين القبائل العربية كلها، فأصبح المسلمون القوة الضاربة الأولى في شبه الجزيرة العربية كلها.
ولم يبق أمام المسلمين غير فتح مكة، تلك المدينة المقدسة التي انتشر الإسلام فيها أيضًا، ولم يحل دون فتحها وعودة المستضعفين الذين أخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، إليها، غير صلح الحديبية الذي يحرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الوفاء به.
وقد أدى انتشار الإسلام بين قسم كبير من القبائل ومن ضمنها قريش وبقاء القسم الآخر على الشرك إلى تفرق كلمة القبائل واستحالة جمع تلك الكلمة على حرب المسلمين. ولم يبق في قريش زعيم مسيطر يستطيع توجيهها إلى ما يريد حين يريد: المسلمون فيها لا يخضعون إلا لأوامر الإسلام، والمشركون فيها بين متطرف يدعو للحرب مهما تكن نتائجها، ومعتدل يعتبر الحرب كارثة تحيق بقريش.
إعلان الحرب:
أراد بنو بكر حلفاء قريش أن يأخذوا بثاراتهم من بني خزاعة حلفاء المسلمين، وحرضهم على ذلك متطرفو قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل وقسم من سادات قريش، وأمدوهم سرًّا بالرجال والسلاح. وقامت بكر بالهجوم المباغت على خزاعة فكبدوهم خسائر في الأرواح والأموال، والتجأت خزاعة إلى البيت الحرام فطاردتهم بكر مصممة على القضاء عليهم غير مكترثة بصلح الحديبية، فانتهت الهدنة بين قريش وحلفائها من جهة، وبين المسلمين وحلفائهم من جهة أخرى، وكان الذي نقض هذه الهدنة قريشا وبكرا.

وسارع عمرو بن سالم الخزاعي بالتوجه إلى المدينة حاملا أنباء نقض صلح الحديبية، فلما وصل إلى المدينة قصد المسجد وقص على النبي صلى الله عليه وسلم ما أصاب خزاعةَ من بكر وقريش في مكة وخارجها، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرتَ يا عمرو بن سالم»!
وخرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما أصابهم فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على فتح مكة.
وقدر قادة قريش المعتدلون وعقلاؤهم ماذا يعنيه انتهاء الهدنة بين قريش والمسلمين، فقرروا إيفاد أبي سفيان بن حرب إلى المدينة للتشبث بتثبيت العهد وإطالة مدته.
ولما وصل أبو سفيان «عسفان» في طريقه إلى المدينة لاقى بديل بن ورقة وأصحابه عائدين من المدينة، فخاف أن يكونوا جاءوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما حدث بين بكر وخزاعة، مما يزيد مهمته التي جاء من أجلها تعقيدًا، إلا أن بديلا نفى مقابلته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا سفيان فحص فضلات راحلة بديل فوجد فيها نوى التمر، فعرف أنه كان في المدينة.
ووصل أبو سفيان إلى المدينة، فقصد دار ابنته أم حبيبة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يجلس على الفراش فطوته دونه فقال لها: «يا بنية! ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عني؟» فقالت: «بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس». فقال: «والله لقد أصابكِ بعدي شر».
واستشفع أبو سفيان بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ليكلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأبى.. واستشفع بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأغلظ له في الرد وقال: «أأنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به».
ودخل أبو سفيان على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعنده فاطمة رضي الله عنها، فقال علي: «والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه».
واستشفع أبو سفيان بفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجير ابنها الحسن بين الناس، فقالت: «ما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم».
واستنصح أبو سفيان عليًّا بعد أن اشتدت عليه الأمور فنصحه أن يعود من حيث أتى، فقفل أبو سفيان عائدًا إلى قريش ليخبرهم بما لقي من صدود، ولم يبق هناك شك في إعلان الحرب.
الاستعدادات للحرب:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه بإنجاز استعداداتهم للحركة، وبعث من يخبر قبائل المسلمين خارج المدينة بإنجاز استعداداتهم للحركة أيضًا، كما أمر أهله أن يجهزوه، ولكنه لم يخبر أحدًا بنياته الحقيقية ولا باتجاه حركته، بل أخفى هذه النيات حتى عن أقرب المقربين إليه، ثم أرسل سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم ليزيد من إسدال الستار الكثيف على نياته الحقيقية.

ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على ابنته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أي بنية! أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. فقال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله لا أدري.
ولما اقترب موعد الحركة، صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سائر إلى مكة. وبث عيونه ليحول دون وصول أنباء اتجاه حركته إلى قريش، ولكن حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالة أعطاها امرأة متوجهة إلى مكة، يخبرهم فيها بنيّات المسلمين، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فأدركاها وأخذا منها تلك الرسالة التي كانت معها.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا يسأله عما حمله على ذلك؟ فقال: يا رسول الله بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمَا إنه قد صدقكم؛ وما يدريك، لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم». وشفع لحالطب ماضيه الحافل بالجهاد، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين أن يذكروه بأفضل ما فيه.

 
 
فتح مكة
فتح مكة
في الطريق إلى مكة المكرمة:
غادر المسلمون المدينة المنورة في رمضان من السنة الثامنة الهجرية في عشرة آلاف رجل، بقيادة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام قاصدين فتح مكة، وكان جيش المسلمين مؤلفًا من الأنصار والمهاجرين وسليم ومزينة وغطفان وغفار وأسلم.. وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم من القبائل الأخرى، في عدد وعُدد لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل، وكلما تقدم الجيش من هدفه ازداد عدده بانضمام مسلمي القبائل التي تسكن على جانبي الطريق إليه. ومع كثافة هذا الجيش وقوته وأهميته، فقد بقي سر حركته مكتومًا لا تعرف قريش عنه شيئًا. فبالرغم من اعتقاد قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم في حل من مهاجمتهم، ولكنها لم تكن تعرف متى وأين وكيف سيجري الهجوم المتوقع. ولشعور قريش بالخطر المحدق بها، أسرع كثير من رجالها بالخروج إلى المسلمين لإعلان إسلامهم، فصادف بعض هؤلاء، ومنهم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، جيشَ المسلمين في طريقه إلى مكة المكرمة.

ووصل جيش المسلمين إلى موضع مرّ الظهران على مسافة أربعة فراسخ من مكة، فعسكر المسلمون هناك. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقد كل مسلم في جيشه نارًا، حتى ترى قريش ضخم الجيش دون أن تعرف هويته فيؤثر ذلك في معنوياتها فتستسلم للمسلمين دون قتال، وبذلك يحقق النبي صلى الله عليه وسلم هدفه السلمي في فتح مكة بدون إراقة دماء.
وأوقد عشرة آلاف مسلم نيرانهم، ورأت قريش تلك النيران تملأ الأفق البعيد، فأسرع أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام بالخروج باتجاه النيران، ليعرفوا مصدرها ونيات أصحابها، فلما اقتربوا من موضع معسكر المسلمين قال أبو سفيان: هذه والله خزاعة حمشتها [جمعتها] الحربُ. فلم يقتنع أبو سفيان بهذا الجواب، فقال: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من معسكر المسلمين راكبًا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ليخبر قريشًا بالجيش العظيم الذي جاء لقتالها والذي لا قبل لها به، حتى يؤثر في معنوياتها ويضطرها إلى التسليم دون قتال، فيحقن بذلك دماءها ويؤمن لها صلحًا شريفًا ويخلصها من معركة خاسرة معروفة النتائج سلفًا، فسمع وهو في طريقه محاورة أبي سفيان وبديل بن ورقاء، فعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه وأخبره بوصول جيش المسلمين ونصحه بأن يلجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش فاتحًا صباح غد، فيحيق به وبقومه ما يستحقونه من عقاب.
وأردف العباسُ أبا سفيان على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجّها نحو معسكر المسلمين، فلما وصلا إلى المعسكر ودخلاه أخذا يمران بنيران الجيش في طريقهما إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرّا ينار عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع عمر إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يأمره بضرب عنق أبي سفيان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يستصحب أبا سفيان إلى خيمته، ثم يحضره إليه صباح غد، فلما كان الصباح وجيء بأبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلمَ ليحقن دمه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور كما يحب بعيدًا عن وقوع الحرب، فأوصى العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي حتى يستعرض الجيش الزاحف كله، فلا تبقى في نفسه أية فكرة للمقاومة.
قال العباس: خرجتُ بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم! ثم تمر به القبيلة فيقول: ياعباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: ومالي ولمزينة! حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولبني فلان! حتى مرّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منها إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله، يا عباس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا. فقال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: نعم إذن. عند ذلك قال العباس لأبي سفيان: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان إلى مكة.
قبل دخول مكة المكرمة:
دخل أبو سفيان مكة مبهورًا مذعورًا، وهو يحس أن من ورائه إعصارًا إذا انطلق اجتاح قريشًا وقضى عليها. ورأى أهل ملكة قوات المسلمين تقترب منهم، ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد قرروا قرارًا حاسمًا بشأن القتال ولا اتخذوا تدابير القتال الضرورية، فاجتمعوا إلى ساداتهم ينتظرون الرأي الأخير، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق مجلجلا جازمًا: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان كان آمنًا.

وسمعت هند بنت عتبة بن ربيعة زوج أبي سفيان التي كانت تشايع المتطرفين من مشركي قريش ما قاله زوجها، فوثبت إليه وأخذت بشاربه وصاحت: اقتلوا هذا الحميت الدسم الأحمس [أي هذا الزق المنتفخ]، قبّح من طليعة قوم.
ولم يكترث أبو سفيان بسباب امرأته، فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وقالت قريش: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
وأصبحت مكة المكرمة تنتظر دخول المسلمين: اختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، واجتمع بعضهم في المسجد الحرام، وبقي المتطرفون مصرين على القتال.
خطة الفتح:
كانت مجمل خطة الفتح تتلخص في: الميسرة بقيادة الزبير بن العوام، واجبها دخول مكة من شماليها.

والميمنة بقيادة خالد بن الوليد، واجبها دخول مكة من جنوبها، وقوات الأنصار بقيادة سعد بن عبادة، واجبها دخول مكة من غربيها، وقوات المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح واجبها دخول مكة من شماليها الغربي من اتجاه جبل هند. ومثابة اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند. وكان اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند.
وكانت أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لقادته تنص على ألا يقاتلوا إلا إذا اضطروا اضطرارًا إلى القتال، لغرض أن يتمّ الفتح سلميًّا وبدون قتال.
ودخلت قوات المسلمين مكة فلم تلق مقاومة، إلا جيش خالد بن الوليد، فقد تجمع متطرفو قريش مع بعض حلفائهم من بني بكر في منطقة الخندفة، فلما وصلها رتل خالد أمطروه بوابل من نبالهم، ولكن خالدًا لم يلبث أن فرّقهم بعد أن قُتل رجلان من رجاله ضلا طريقهما وانفصلا عنه، ولم يلبث صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن تركوا مواضعهم في الخندمة وفروا مع قواتهم، واستسلمت المدينة المقدسة للمسلمين، وفتحت أبوابها لهم، وعاد المستضعفون الذين أخرجوا منها بغير حق إلى ديارهم وأموالهم.

في مكة المكرمة:
عسكر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منطقة جبل هند، بعد أن سيطر المسلمون على جميع مداخل مكة، فلما استراح وتجمعت أرتال الجيش، نهض والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت العتيق وحول البيت، وكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، يطعنها بالقوس وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطلُ إن الباطل كان زهوقًا.. جاء الحق وما يُبدِئُ الباطل وما يعيد) ثم دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ودخلها، فرأى الصور تملأها، ومن بينها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فمحا ما في الكعبة من صور، ثم صلى ودار في البيت يكبر، ولما انتهى تطهير البيت من الأصنام والصور، وقف على باب الكعبة، وقريش تنظر ماذا يصنع، فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو مال فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم إن الله عليم خبير. يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: « فإني أقول كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء».

طهر المسلمون البيت من الأصنام، وأتم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أول يوم من أيام فتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة: أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، وهي لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يومًا، نظّم خلالها شئون مكة، وفقّه أهلها في الدين، وأرسل بعض السرايا للدعوة إلى الإسلام وتحطيم الأصنام، من غير سفك للدماء.
عبرة الفتح:
 1-الكتمان
ما أحوج المسلمين اليوم أن يتعلموا الكتمان من هذه الغزوة، فأمورهم كلها مكشوفة، بل مكشّفة، وأعداؤهم يعرفون عنهم كل شيء، لا تكاد تخفى عليهم، فلا سر لدى المسلمين يبقى مكتومًا.

لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحرص على ألا يكشف نياته لفتح مكة لأي إنسان، عندما اعتزم التحرك إلى مكة وكان سبيله إلى ذلك الكتمان الشديد.
لم يبح بنياته لأقرب أصحابه من نفسه أبي بكر الصديق، بل لم يبح بنياته لأحب النساء إليه عائشة بنت أبي بكر الصديق، وبقيت نياته مكتومة حتى أنجز هو وأصحابه جميع استعدادات الحركة، وحتى وصل أمر الاستحضار إلى المسلمين كافة خارج المدينة وداخلها، ولكنه كشف نياته في الحركة إلى مكة قبيل موعد خروجه من المدينة، حيث لم يبق هناك مسوغ للكتمان، لأن الحركة أصبحت وشيكة الوقوع.
ومع ذلك، بث عيونه وأرصاده، لتحول دون تسرب المعلومات عن حركته إلى قريش.
بث عيونه داخل المدينة ليقضي على كل محاولة لتسريب الأخبار من أهلها إلى قريش، وقد رأيتَ كيف اطلع على إرسال حاطب بن أبي بلتعة برسالته إلى مكة، فاستطاع حجز تلك الرسالة.
وبث عيونه وأرصاده داخل المدينة وخارجها ليحرم قريشًا من الحصول على المعلومات عن نيات المسلمين، وليحرم المنافقين والموالين لقريش من إرسال المعلومات إليها.
وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظًا كل اليقظة، حذرًا كل الحذر، حتى وصل إلى ضواحي مكة، ونجح بترتيباته في حرمان قريش من معرفة نيات المسلمين أعظم نجاح.
ولكي يلقي النبي صلى الله عليه وسلم ظلا كثيفًا من الكتمان على نياته، بعث سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم، شمالي المدينة المنورة، بينما كان يستعد لفتح مكة في جنوب المدينة المنورة، فسارت أخبار المسلمين بأنهم يتجهون شمالا لكتمان اتجاههم نحو الجنوب.
ولو انكشفت نيات المسلمين لقريش في وقت مبكر، لاستطاعت حشد حلفائها وتنظيم قواتها وإعداد خطة مناسبة لمقابلة المسلمين، ولاستطاعت مقاومة المسلمين أطول مدة ممكنة دفاعًا عن مكة المكرمة ولأوقعت بهم خسائر في الأرواح والأموال، وكانت قريش قد استطاعت حشد عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب كما هو معروف، وباستطاعتها أن تحشد مثل هذا الحشد وأكثر دفاعًا عن مكة.
وليس من السهل أن يتحرك جيش ضخم تعداده عشرة آلاف مقاتل من المدينة إلى مكة بالمراحل دون أن تعرف قريش وقت حركته وموعد وصوله ونياته، حتى يصل ذلك الجيش اللجب إلى ضواحي مكة القريبة، فيفلت الأمر من قريش، ولا تعرف ما تصنع إلا اللجوء إلى الاستسلام دون مقاومة.
إن تدابير النبي صلى الله عليه وسلم في الكتمان أمّنت له مباغتة كاملة لقريش، وأجبرتها على الرضوخ للأمر الواقع: الاستسلام.
وهذا الكتمان لا مثيل له في سائر الحروب، ما أحرانا أن نتعلمه ونقتدي به ونسير على منواله.
2-بعد النظر:
القائد المتميز هو الذي يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى مزاياه الأخرى، ويتخذ لكل أمر محتمل الوقوع التدابير الضرورية لمعالجته، دون أن يترك مصائر قواته للاحتمالات بدون إعداد كامل.

إن النصر من عند الله، يؤتيه من يشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى ينصر من أعدّ عدّته واحتاط لكل احتمال كبير أو صغير قد يصادفه، لذلك يشدد العسكريون على إدخال أسوأ الاحتمالات في حسابهم في أية عملية عسكرية.
لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبس أبو سفيان في مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر عليه جنود المسلمين، فيحدث قومه عن بينة ويقين، ولكي لا يكون إسراعه في العودة إلى قريش قبل أن تنهار معنوياته تمامًا، سببًا لاحتمال وقوع أية مقاومة من قريش، مهما يكن نوعها ودرجة خطورتها. وفعلا اقتنع أبو سفيان بعد أن رأى قوات المسلمين كلها، أن قريشًا لا قبل لها بالمقاومة.
وقد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في حساباته أسوأ الاحتمالات أيضًا، عند تنظيمه خطة الفتح، فكانت تلك الخطة تؤمن تطويق البلد من جهاته الأربع بقوات مكتفية بذاتها، بإمكانها العمل مستقلة عن القوات الأخرى عند الحاجة، وبذلك تستطيع القضاء على أية مقاومة في أية جهة من جهات مكة، كما تؤمن توزيع قوات قريش إلى أقسام لمقاومة كل رتل من أرتال المسلمين على انفراد، فتكون قوات قريش ضعيفة في كل مكان.
واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم هذه التدابير الفاعلة بالرغم من اعتقاده بأن احتمال مقاومة قريش للمسلمين ضعيف جدًّا، وذلك ليحول دون مباغتة قواته وإيقاع الخسائر لها، مهما تكن الظروف والأحوال.
فما أحرى أن يتعلم المسلمون هذا الدرس ويطبقوه في إعداد خططهم المصيرية!

3-العقيدة:
كان جيش الفتح مؤلفًا من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة في حينه، لا يوحد بينه غير العقيدة الواحدة، التي يضحي الجميع من أجلها، وتشيع بينهم الانسجام الفكري الذي يجعل التعاون الوثيق بيهم سائدًا.

لقد كانت انتصارات المسلمين الأولين انتصارات عقيدة بلا مراء، وكان النصر من أول ثمرات هذه العقيدة على النطاق الجماعي.
أما على النطاق الفردي، فقد رأيت كيف طوت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها أبي سفيان، وقد جاء من سفر قاصد بعد غياب طويل؛ ذلك لأنها رغبت به عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.
وعندما جاء أبو سفيان مع العباس ليواجه النبي صلى الله عليه وسلم، رآه عمر بن الخطاب، فغادر خيمته واشتد نحو خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إليها قال: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه. قال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته، فلما أكثر عمر قال العباس: مهلا يا عمر، ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة، فقال عمر: مهلا يا عباس، فوالله إسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم. لقد كان يمثل عقيدة المسلمين الأولين، بينما كان العباس حديث عهد بالإسلام.
وكيف نعلل إقدام المهاجرين على المشاركة في غزوة الفتح، التي لم يكن من المستبعد أن تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش؟
إن عقيدة المسلمين لا تخضع للمصالح الشخصية، بل هي رهن المصالح العامة وحدها، وقد انتصر المسلمون بالعقيدة الراسخة، وهي اليوم غائبة عنهم فذلوا وهزموا، فما أحراهم أن يعودوا إلى عقيدتهم ليستعيدوا مكانتهم بين الأمم، ولينتصروا على أعدائهم، فقد غاب عنهم النصر منذ غاب عنهم الإسلام.

4-المعنويات:
لم تكن معنويات المسلمين في وقت من الأوقات أعلى وأقوى مما كانت عليه أيام فتح مكة، البلد المقدس عند المسلمين الذين يتوجهون إليه في صلاتهم كل يوم، ويحجون بيته كل سنة. وكانت أهمية مكة للمهاجرين أكثر من أنها بلد مقدس، فهي بلدهم الذي هاجروا منه فرارًا بدينهم وخلفوا فيها أموالهم وذويهم وكل عزيز عليهم.

لذلك لم يتخلف أحد من المسلمين عن هذه الغزوة إلا القليل من ذوي الأعذار القاهرة الصعبة.
أما معنويات قريش، فقد كانت متردية للغاية، فقد أثرت فيهم عمرة القضاء، كما أثر فيهم انتشار الإسلام في كل بيت من بيوت مكة تقريبًا، وبذلك فقدت مكة روح المقاومة وروح القتال. ومما زاد في انهيار معنويات قريش، ما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم من إيقاد عشرة آلاف نار في ليلة الفتح، ومرور الجيش كله بأبي سفيان قائد قريش أو أكبر قادتها، ودخول أرتال المسلمين في كل جوانب مكة.
لقد كانت غزوة الفتح معركة معنويات بالدرجة الأولى، ما أحرانا أن نتعلمها لحاضرنا ومستقبلنا.

5-السلم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه لفتح مكة على نياته السلمية، ليؤلف بذلك قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الإسلام.

وقد عهد عليه الصلاة والسلام إلى قادته حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم. وبقي النبي صلى الله عليه وسلم مصرًّا على نياته السلمية بعد الفتح أيضًا، فقد أصدر العفو العام عن قريش قائلًا: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على السلم الجماعي، حرص كذلك على السلم الفردي، فمنع القتل حتى لفرد واحد من المشركين، مهما تكن الأسباب والأعذار.
فقد قتلت خزاعة حلفاء المسلمين رجلا من هذيل غداة يوم الفتح لثأر سابق لها عنده، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وقام في الناس خطيبًا، ومما قاله: «يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا قدم قاتله، وإن شاءوا فعقله»، أي ديته، ثم ودي بعد ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجلا من المشركين أراد اغتياله شخصيًّا وهو يطوف في البيت، بل تلطف معه. فقد اقترب فضالة بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته، فاستدعاه وسأله: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟» قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلطف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.
ورأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مفتاح الكعبة بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال عليه الصلاة والسلام: «أين عثمان بن طلحة؟» فلما جاء عثمان قال له: «يا ابن طلحة، هاكَ مفتاحك، اليوم يوم بر ووفاء».
وقد رأى المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يتواضع لله، حتى رأوه يوم ذلك ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعًا، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعًا لله وشكرًا.
تلك هي سمات الخلُق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.
إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام.
ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة، لحاضر المسلمين ومستقبلهم، لحاضر أفضل ومستقبل أحسن، وهي عبر لمن يعتبر.



تابع القراءة Résumé abuiyad

امثال و حكم

حضارتنا الاسلامية عبر التاريخ

الحضارة المغربية

تأملات

جميع الحقوق محفوظة ©2013